سلسلة الفقه المالكي إرْشَادُ السَّالِك إلىَ أَشرَفِ المَسَالِكِ فِي فقهِ الإمَامِ مَالِك، لعبد الرحمن بن محمد بن عسكر شهاب الدين البغدادي المالكي(1)



بسم اللّه الرحمن الرحيم والحمد للّه رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وشفيع المسلمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإن هذا الكتاب (إرشاد السالك) في الفقه المالكي من أخصر المتون وأجمعها للأحكام الفقهية، فقد اشتمل على أحكام كثيرة لا توجد إلا في المطولات، كما أنه ترك أحكاماً أُخرى زدتها عليه في هامشه حتى تكون فائدته تامة، واستيعابه شاملاً، ولا شك أن القارئ سيجد في كثير من مواضع الكتاب غموضاً كان يجب أن يوضح بالشرح ولكني مقيد بالوقت القصير، وبالرغبة في الاختصار على ما كان، ولولا ذلك لشرحته شرحاً واسعاً يجعله في مصاف الكتب الكبيرة التي لا يحتاج الناظر فيها إلى الاطلاع على غيرها، ولعل اللّه يوفق في وقت قريب إلى تحقيق ما أصبو إليه ويصبو إليه كل محب للدين عامل على نشره بنشر كتبه، إنه نعم المولى ونعم المعين ونعم النصير.
طريقة الكتاب: يسير هذا الكتاب على طريقة مالكية العراق. ولهم آراء في الفقه تخالف آراء غيرهم من مالكية الأقطار الأخرى، فقد ترى فيه الرأي راجحاً قوياً وهو ضعيف عند غير العراقيين، وقد ترى فيه الرأي ضعيفاً وهو مشهور قوي عند غيرهم أيضاً، غير أن هذه الآراء المذكورة في هذا الكتاب مع مخالفتها لغيرها قد تكون قوية في الواقع مؤيدة بالدليل الذي تأويله إلا بعد التمحل والتخريج غير السديد، وقد تكون ضعيفة لا سند لها يمكن التعويل عليه إلا الرغبة في حملها على ما يرى أصحابها وهم في سبيل ذلك يركبون الشطط، ويبعدون عن سواء السبيل.
ومن أمثلة الآراء القوية في الواقع المؤيدة بالدليل قول المؤلف في باب الحيض في الاستمتاع بالحائض (ولا بأس بالاستمتاع بأعاليها شادة عليها إزارها) فإن المعتمد في مذهب مالك أنه يجوز للزوج الاستمتاع بأعالي بدن زوجته وأسافله حتى مباشرة ما بين السرة والركبة ما عدا الجماع، ولكن رأي المؤلف هو الأرجح لأن النبي صَلى اللّهُ عَليه وَسَلَم كان يأمر نساءه أثناء الحيض بلبس الإزار ويقصر تمتعه على غير ذلك قالت عائشة رضي اللّه عنها في هذه المسألة (وكان يأمرنا أن نأتزر) أي نلبس الإزار، ولأن مباشرة ما بين السرة والركبة ربما أدت إلى الجماع المحرم فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ومن أمثلة الآراء الضعيفة التي لا يسندها دليل قوي قوله في الصوم في المفطر أن (لا بدخول ذباب وغبار أو حقنة إلخ) أي لا يفطر الصائم بدخول ذلك جوفه، فقد جعل الحقنة غير مفطرة وأطلق ذلك والصحيح أن الحقنة الشرجية مفطرة وأن الحقنة التي لا تفطر هي الحقنة في إحليل الذكر لأنها لا تصل إلى المعدة والأمعاء وكذلك في قبل المرأة على رأي في المذهب.
مذهب اسم مكان الذهاب وهو هنا مجاز إذ المراد به ما ذهب إليه مالك رحمه اللّه تعالى من الأحكام الفقهية وما رآه فيها بحسب اجتهاده على أساس الأصول التي اختارها وبنى اجتهاده عليها وهي سبعة عشر أصلاً: نص الكتاب، وظاهره أي العموم، ودليله - أي مفهوم المخالفة - ويسمى دليل الخطاب، ومفهوم الكتاب وهو مفهوم الموافقة الأولوي، وشبهه - أي الكتاب وهو للتنبيه على العلة. ومثل هذه الخمسة من السنة. والإجماع، والقياس، وعمل أهل المدينة، وقول الصحابي، والاستحسان، وسد الذرائع، والاستصحاب.
أما مراعاة الخلاف فلا يعتبرها دائماً بل بحسب ما تدعو إليها الحاجة.
وقد توسع متأخروا المالكية في الاستحسان وسد الذرائع، وفي دعوى عمل أهل المدينة توسعاً خارجاً عن حد المعقول كما تبين من مراجعة كتب العمليات والنوازل.

لا يَرْفَعُ الْحَدَثَ (2) وَاَلْخَبَثَ إِلاَّ اَلْمَاءُ اَلْمُطْلَقُ. وَهُوَ مَا كَانَ عَلى خِلْقَتِهِ أَوْ تَغَيَّرَ بِمَا لا يَنْفَكُّ غَالِباً كَقَرَارِهِ (3)، وَاَلْمُتَوَلِّدِ مِنْهُ (4) وَيُكْرَهُ اَلْوُضُوءُ بِالْمُسْتَعْمَلِ (5) وَيَسِيرٌٍ حَلَّتْه نَجَاسَةً لَمْ تُغَيِّرْهُ (6)، وَسُؤْرِ مَا لا يَتَوَقَّى النَّجَاسَةَ لا مَا أَفْضَلَتْهُ اَلْبَهَائِمُ، أَوْ تَطَهَّرَتْ مِنْهُ امْرَأَةٌ خَلَتْ بِهِ، وَمَا تَغَيَّرَ بِمُخَالَطَةِ أَجْنَبِيٍّ كَالْخَلِّ وَالْبَوْلِ سَلَبَهُ الطُّهُورِيَّةَ، وَأَكْسَبَهُ حُكْمَهُ، وَيُكْرَهُ مِنْ آنِيَةِ عِظَامِ الْمَيْتَةِ وَجِلْدِهَا (7)، وَيَحْرُمُ مِنَ النَّقْدَيْنِ وَيُجْزِئُ (8)، وَيَجِبُ التَّحَرِّي فِي اشْتِبَاهِ الطَّاهِرِ بِالنَّجِسِ فَيَتَوَضَّأُ بِمَا يَغْلِبُ عَلى ظَنِّهِ طَهَارَتُهُ وَقِيلَ يَتَوَضَّأُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَيُصَلِّي وَيَغْسِلُ أَعْضَاءَهُ مِنَ الثَّانِي، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ بِهِ وَيُصَلِّي، فَإِنْ كَثُرَتْ زَادَ عَلى عَدَدِ النَّجَاسَةِ وَاحِدَةً (9) وَإِذَا مَاتَ بَرِّيٌّ ذُو نَفْسٍ (10) سَائِلَةٍ فِي بِئْرٍ، فَإِنْ تَغَيَّرَ وَجَبَ نَزْحُهُ حَتَّى يَزُولَ التَّغَيُّرُ، فَإِنْ زَالَ بِنَفْسِهِ فَالظَّاهِرُ عَوْدُهُ إِلى أَصْلِهِ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرِ اسْتُحِبَّ النَّزْحُ بِحَسَبِ الْمَاءِ وَالْمَيْتَةِ.

(2) الحدث وصف يقوم بالجسم أو بأعضاء الوضوء يمنع صحة صلاة قبل زواله وسببه الجنابة أو الحيض والنفاس أو خروج شيء من السبيلين أو غير ذلك كما سيأتي في أسباب الحدث، والخبث هو النجاسة، ومعنى رفعها تطهيرها بإزالة عينها وطعمها وريحها بالماء أو في الاستنجاء.
(3) قرار الماء الأرض أو قاع الحوض ونحوه مما يحوي الماء.
(4) والمتولد منه كبعض النباتات الخضراء التي تتولد بنفسها من وجود الماء كالطحلب والأعشاب الصغيرة والسمك والدود ونحوها.
(5) يكره أن يتوضأ الشخص بالماء المستعمل بشروط ثلاثة:
-1- أن يكون الماء يسيراً لا كثيراً فلو كان كثيراً واستعمل قبل ذلك في رفع حدث فلا يضر ويجوز الوضوء به. -2- أن يكون استعمل في رفع حدث سابق على الاستعمال الثاني. -3- أن يكون استعماله ثانياً في رفع حدث أيضاً فلو استعمل الماء المستعمل أولاً في رفع حدث لإزالة حكم نجس جاز ذلك ولم يضره الاستعمال الأول.
(6) أي يكره الوضوء بالماء القليل الذي فيه نجاسة لم تغيره فإذا غيرته لم يصح به الوضوء.
(7) أي يكره الوضوء بالماء الموضوع في آنية من عظام الميتة أو من جلدها.
(8) أي يحرم الوضوء من آنية الذهب والفضة ولكنه يجزئ الوضوء به يرفع الحدث.
(9) هذا ما مشى عليه خليل حيث قال: وإذا اشتبه طهور بمتنجس أو نجس صلى بعدد النجس وزيادة إناء أ هـ.
(10) أي له دم يسيل، فإذا لم يكن الميت له دم يسيل كالجراد والذباب فلا يضر موته الماء إذا كثر كثرة تغير الماء، وقوله بري خرج البحري كالسمك ونحوه مما لا يعيش إلا في الماء فلا تضر ميتته.

تنويه : الصور والفيديوهات في هذا الموضوع على هذا الموقع مستمده أحيانا من مجموعة متنوعة من المصادر الإعلامية الأخرى. حقوق الطبع محفوظة بالكامل من قبل المصدر. إذا كان هناك مشكلة في هذا الصدد، يمكنك الاتصال بنا من هنا.

عن الكاتب

دكتور / محمد عبد الدايم علي سليمان محمد الجندي الجعفري

0 التعليقات لموضوع "سلسلة الفقه المالكي إرْشَادُ السَّالِك إلىَ أَشرَفِ المَسَالِكِ فِي فقهِ الإمَامِ مَالِك، لعبد الرحمن بن محمد بن عسكر شهاب الدين البغدادي المالكي(1)"


الابتسامات الابتسامات