سلسلة : إلى بناء مصر ، الآلية الثانية ( التوكل )



التوكل وأثره في التنمية :
        التوكل  يعنى: تمام اليقين بالله، لأن اليقين بالله تعالى لا يكون إلا بحسن الظن به سبحانه، والثقة بما وعد من الرزق، فإذا تم اليقين بالله سمى توكلاً  وقيل: هو الثقة بما عند الله، واليأس عما في أيدي الناس .
        ولذلك فالتوكل رابط بين القلب والقالب، وأعمال الجوارح لا تكفى دون أعمال القلب، والمتحضرون الأوائل طابقوا سعيهم التربوي وقواعد سلوكهم بالصيغة الروحية التي تتجاوب مع تعاليم الإسلام، انطلاقاً من الفعل الروحي المتوهج المرتبط بالتوكل على الله، والمؤدى مباشرة إلى القناعة الذاتية، وبهذا المعنى فإن أدب المسلمين الروحي هو أدبهم الجسدي .
        انهم يقيمون سلوكهم في التوكل بفعل وحدته الداخلية المنبعثة من الحس الروحي القائم على اليقين في الله، لذلك قال احد السلف 
( لا تكن في معاملتك مع الله تعالى معتمداً على سواه ) ومن هذه القاعدة كان التوكل على الله أساساً في السعي، وذلك عبر معايير رئيسة هي:
أولاً: الأخذ بأسباب التنمية مع إسقاط التدبير :
        وأساس الفكرة يقوم على رحمة الله بعباده، فهناك من لديه جنوح كبير نحو الحلم وربما يتجاوز قدراته الحقيقية، وتنطلق أعماله من أحلام وخيالات ربما لا يمكن تحقيقها، لذلك قيل (إن كان ولابد من التدبير، فدبروا ألا تدبروا، وقيل أيضاً: لا تختر من أمرك شيئاً، واختر ألا تختار، وربك يخلق ما يشاء ويختار) .
        وإسقاط التدبير لا يعنى  ترك أسباب التنمية لا ...، بل سعى نحوها في معية الله تعالى،  ليس العبادة عندنا أن تصف قدميك وغيرك يتعب لك، ولكن ابدأ برغيفيك فأحرزهما ثم تعبد )،  وقد حث الاسلام المرء ليكون من أصحاب الطموحات والآمال الشاسعة، قال سفيان الثوري  ( عليك بعمل الأبطال، الكسب من الحلال، والإنفاق على العيال ) ، ولم تقم فكرة علمائنا على رفض التنمية والنهضة الحضارية، ولكنهم سلكوا طريقها، وهذبوا منهجهم في طلبها، بينوا: (أن العمل في الدنيا واجب لابد منه، وليس هو للدنيا إنما يكون لله تعالى، وأعمال الدنيا قد تقدم على غيرها من العبادات عند المقتضى، كالسعى على المعاش لمن عنده عائلة وأهل، فيكون له أجر أكثر من أجر العابد التارك للتكسب، لأن مقام التوكل على الله سبحانه لا ينافيه العمل للكسب، فرب عامل في شئون الدنيا، أقرب إلى الله سبحانه لحسن توكله عليه من عابد مشغول القلب بمعاشه، لصفاء القلب الأول وطمأنينته بما ييسره الله سبحانه من الرزق .
        وقد يكون إصلاح شئون الدنيا بعمل المنافع العامة، والتفات المسلمين إلى العناية بحفظ دنياهم ونفوسهم بالأموال والصنائع والزراعة والتجارة والعلوم الكونية التي يعدون بها العدد لتجديد السنة، وإعلاء الكلمة، وإذلال الكفر وأهله )
        ومن هنا فإنالاسلام لا ينكر العمل والسعى،ولكنه يطالب بالسعي ويسقط التدبير أثناء السعي،لأن التدبير فيه لون من الحرص،والحرص من صفات الدنيا،وهذا يتعارض مع المنهج المسلم الصادق ،لذلك قيل في قوله تعالى ( فلله ا الآخرة والأولى ) فيه إلزام العبد على ترك التدبير مع الله تعالى، فإذا كان لله الآخرة والأولى، فليس فيهما للإنسان شيء، فلا ينبغي له التدبير في ملك غيره، وإنما الذي يدبر في الدارين للإنسان مالكهما سبحانه وتعالى ( .
        وقد عد الاسلام الجد في الكسب سبيلاً إلى تفرغ القلب من أسباب الانشغال عن الأنس بالله في الخلوات والجلوات، فإذا جد الفرد في كسبه، لم يزاحم قلبه ولا عقله مطالب الحياة، فلا يكمل شغل قلب عبد بالله الكريم وله في الدنيا حاجة وإن النفس تستريح، ويصفو القلب للنهار والعمل فيه، فالنفس إذا استراحت عادت جديدة، ووجدت نشاطاً، فيكون للصادق في النهار نهاران، يغتنمهما بخدمة الله تعالى، والدءوب في العمل ) ()، وبذلك يراعى الاسلام  في نظرته لدواعي التنمية والإنتاج استيعاب الجسد والعقل حد الكفاية من الراحة، بنوع  من النظام وإلغاء الفوضى، وهى بذلك تحقق (وحدة) الشخصية، وانسجام طاقاتها، وتلاحمها لخدمة هدف معين .. وهذا معنى خروج الشخصية الإسلامية من دائرة السلوك الفوضوي المزدوج إلى النظام .
        والاسلام في نظرته لتنمية الكسب،  يربط بين السعي واليقين في الله تعالى، وفى مقابل ذلك نجد في واقعنا ما يمكن تسميته بالشخصية المزدوجة التي جمعت بين اليقين في الله وشدة الحرص .
        والازدواج في الشخصية هو تشتت قواها، واتجاه الدوافع المتقاربة في القوة إلى العمل فى اتجاهات متعاكسة، أو هو عدم ترك التدبير للإرادة الربانية بالتفويض الكامل لله تعالى في أمر الرزق، يقول احد العلماء: ( أعلم أن للعبد بالنسبة للكسب والرزق ثلاثة أحوال: حال قبل أن يرزق، وهى حالة السعي، وحال بعد ذلك، وهى حالة الحصول، وحال بعد انقضائه، وهى الحالة الثالثة .
        فأما ما يعرض قبل حصوله: فالحرص والتعب في طلبه، وشغل القلب وتعلق الهم به، والذل للخلق بسببه، والتفكير والتدبير في تحصيله. وأما الحرص فهو الرغبة القائمة بالنفس في التحصيل له، والانكباب على ذلك، وهو ينشأ عن فقدان الثقة، وضعف اليقين وفقدان النور، إذ لو كان القلب معموراً بالنور، وبمنن الله مغمور، لم تطرقه طوارق الحرص، ولو انبسط نور اليقين على القلب لكشف له عن سابق القسمة، فلم يمكنه الحرص، ولعلم العبد أن له عند الله قسمة لابد أن يوصلها إليه .
        وأما التعب في طلبه، فإما أن يكون تعب الظواهر، ويكون الاستعاذة منه إلى الله تعالى، لأنه إذا استولى على الطالب للرزق التعب في الظاهر، شغله ذلك عن القيام بالأوامر، وإن كان التعب هو تعب القلوب، لا تعب الظواهر، فهو أولى بأن يستعاذ منه، وذلك بأن القلوب يتعبها تكلفها في طلب الرزق والفكرة فيه، ويثقلها ما حملت من ذلك، ولا راحة لها إلا بالتوكل على الله، لأن التوكل على الله، وضع أثقاله، والله تعالى يحملها عنه ، والتوكل على الله بالاندماج في العمل وإتقانه دون تفكير ولا تدبير في مقدار إنتاجه، وعدم الاسترسال مع الهوى، وذلك كفيل بالوصول إلى النتائج المتوخاة .
        وبما أن الإنسان طموح ومحدود القدرة، فكثيراً ما يحاول ألا يفشل، والفشل يصدمه، ويجرح طموحه. وفى هذه الحالة، يواجه أمرين :
        الأول: أن يركب عنفوانه، فيبقى متأثراً بالصدمة، ويترك جرحه مفتوحاً، وفى هذا ما يثبطه عن  تطوير المحاولة  .
        الثاني: أن يتواضع عن عنفوانه، ويعترف بالواقع، ويستخلص من التجربة درساً، وفى هذا ما يمكنه من تطوير المحاولة .
        ومفهوم التوكل في الاسلام إيجابي علاجي، يتوقف على درس التجربة الفاشلة، والنهوض منها إلى تجربة أخرى، وهذا يساوى الاستسلام لقوانين الكون، أي لإرادة الله تعالي .


ثانياً : ترك التواكل والخمول :  
        يتطلب تحقيق الهدف، بذل الجهد والنشاط من الفرد ومتابعة ذلك النشاط بجد واجتهاد، حتى يصل إلى هدفه النهائي، وإذا أخفق أو قصَّر فإنه لا يصل إلى غايته، ولا يستطيع الفرد تحقيق هدفه إلا إذا كانت لديه قوة تدفعه إلى إنجاز هذه القوة الدافعة لنشاطه أو سلوكه وهى التي تسمى الدافعية، وهى اليد الخفية التي تحقق معنى التوكل، وقد أبدى اوائلنا دقة نظرتهم في جانب التوكل الذي يحرك هذه الدافعية تجاه الكسب والعمل، حتى قالوا في الصبر على معاناة الدافعية: (لا خير فيمن لا يذوق ذل المكاسب) ([، وقيل :
( التوكل حال النبي r، والكسب سنته، فمن بقى على حاله فلا يتركن سنته ) .
        ومن هنا أحيا الاسلام فضيلة الأخذ بالأسباب المشروعة، وعدُّوا الاكتساب من أصول الإيمان، وأنكروا التكاسل والتواكل، وقد رأينا علية المسلمين يعملون بالتجارة، والزراعة، والصناعة، وغير ذلك من أعمال الكسب، إذن رؤية الاسلام نحو التنمية والكسب ورفض التواكل لم تنطلق دون تجربة، علماؤنا بأن المتواكل مخالف لشرع الله،وأن من طعن على الاكتساب فقد طعن السنة، ومن طعن على التوكل فقد طعن على الإيمان وقد يظن الجهال أن شرط التوكل ترك الكسب، وذلك خطأ لأن ذلك حرام في الشرع، والشرع قد أثنى على التوكل، وندب إليه فكيف ينال ذلك بمحظورة ؟ وعليه فالقلوب الصادقة والعقول الواعية والأيادي الفتية القادرة على تحقيق إرادتها تحت إشراف المعية الإلهية، لاشك أنها في عبادة من أعظم العبادات، وذلك حال نعت به السلف، فقد فهموا التوكل على حقيقته، ونبهوا أنه ليس بترك الأسباب والتخلى عنها، ولكن باطمئنان قلوبهم بالله تعالى، واعتمادهم عليه، وثقتهم به، واستعانتهم به، وأبدانهم تأخذ بالأسباب امتثالاً لأمره، وتمسكاً بشرعه، واقتداءاً بهدى نبيه r، وأصحابه الكرام.      
ثالثاً : سد العجز في المجتمع بالإيثار والعطاء :
        احتلت ظاهرة الفقر مكانة بارزة داخل البحث العلمي، والفقر ظاهرة عميقة الجذور في المجتمع، ويعتبر مصدر المشكلات وكافة الشرور التي يعانى منها الأفراد في أي مجتمع، وقد برع الصوفية في نظرتهم نحو سد العجز والفقر عبر منظومة إنسانية عميقة قوامها الإيثار والعطاء، مما يوقف عملية التمرد والفساد في المجتمع وتوفير الكفاية لدى أفراده .
        يقول السلف في نظرية الإيثار: الإيثار على درجتين: الأولى: أن تؤثر الخلق على نفسك، ويترتب عليه ثلاثة أشياء: تعظيم الحقوق، ومقت الشح، والرغبة في الفعل، والثانية إيثار رضا الله على رضا عباده وإن عظمت فيه المحن وثقلت فيه المؤن، ويعين على ذلك قوة التصبر، فالجود والبذل من أجمل الخصال وأحمدها، لذا قيل: حقيقة الجود أن لا يصعب عليك البذل (
        ولما كان انهيار المجتمعات سببه التفاوت الشديد بين الطبقات، إقطاع وفقر، فهي خاوية على عروشها،وبئر معطلة وقصر مشيد، والنظام الاجتماعي هو المصب النهائي للتنمية،كان لابد من اتباع المنهج الاسلامي في تطبيق الفكرة الإسلامية تجاه العطاء والجود والإيثار، حتى يمكن تحقيق أكبر قدر ممكن من العدالة في توزيع الدخل والخدمات العامة،فلا يصح لأحد الأخذ حتى يكون الإخراج أحب إليه من الأخذ .
        فالمجتمع الواحد الذي فيه إنسان واحد جائع، تبرأ ذمة الله منه، والنظام الصوفي نظام إسلامي،يهدف إلى تحقيق الكمال على الأرض كنظام اجتماعي اقتصادي،والإسلام له خصوصيته في الاقتصاد، يجمع بين نشاط الفرد ومصلحة الجماعة .       
التوكل إثبات للوفرة وإبطال للندرة :
        الوفرة تعنى: أن ما في الأرض من موارد، وما فيها من طاقة، تكفى حاجة الناس، بل تزيد على حاجتهم )، والندرة عكس ذلك، فهي تعنى: أن المشكلة الغذائية  ناشئة من ندرة الموارد الطبيعية لكثرة الطلب عليها،وحاجيات الإنسانية المتعدد )،وهى فكرة رأسمالية( باطلة، أبطلها الإسلام، فلم نسمع أن صخراً استعصى على من يشقه، أو بحراً تأبى على الصيد منه، أو شيئاً من ثروات الأرض اعترض على استخراجه، فالأرض مذللة لخدمة الإنسان، فالتوكل مقام شريف،وقد أمر الله تعالى بالتوكل مقروناً بالإيمان،وهذا المفهوم العقيدى له ارتباط بمسألة الاقتصاد، فالحق تعالى أخبر الناس أنه قد خلق ما يمكن البشرية من استمرارية العيش، وإن ما خلق فى الأرض من ثروات وأمـوال، ليكفى لسد حاجات الناس الأساسية ويزيد، وفعلاً لو نظرنا في الواقع لرأينا أن الإنسان لم يستغل من مجموع الثروات إلا القليل، وذلك لغياب التوكل على الله واليقين به سبحانه، قيل : التوكل قائم على الاعتصام بالله (، والقائلون بالندرة فقدوا اتزانهم العقلي، فهم مرضى بأسقام نفسية، تولدت عن غياب الإيمان بالله، فأصيبوا في أبصارهم بالعمى، وحجبوا عن رؤية الحقائق وهى أمام عيونهم، قال احد السلف مخاطباً الإنسان المشغول بالرزق عن الرازق: إذا أدخر لك الباقي ومنّ عليك بالرزق لا يمنعك الفاني، فإنما يمنعك ما لم يقسمه لك، وما لم يقسمه لك فليس لك، ومثال المهموم بأمر الرزق مع وجود السعي، الغافل عن التزود للآخرة، كمثل إنسان جاءه سبع يريد أن يفترسه، ووقع عليه ذباب فاشتغل بذب الذباب ودفعه عن التحرز من السبع، والحق أن هذا عبد أحمق فاقد وجود العقل، ولو كان متصفاً بالعقل لشغله أمر الأسد وصولته وهجومه عليه، عن الفكرة في الذباب، كذلك المهتم بأمر دنياه عن التزود لأخرته، دل ذلك منه على وجود حمقه، إذ لو كان فاهماً عاقلاً لتأهب للدار الآخرة التي هو مسئول عنها، وموقوف عليها، فلا يشغل بأمر الرزق،وهو ينطبق على الرأسماليين، ويكشف كيف خلطوا فى نظرتهم للاقتصاد، دون تمييز بين علم اقتصاد وطرق تنمية الثروة، وبين نظام الاقتصاد الذي يبين طرق توزيع هذه الثروة بين الناس، فجعلوا البحث واحداً دون فصل بين الأمرين، مما أوقعهم في متاهات كبيرة، وزادوا المشكلة تعقيداً بدل حلها، وهذا النظام المادي الرأسمالي القائم على المصالح، والمنافع الدنيوية، غير مرتبط بالناحية الروحية إطلاقاً .
        لذلك سعى السلف إلى إحياء منهج الإسلام عند فهم معنى التزود فربط بين الدنيا والآخرة، وطالب بالتسليم والرضا، ورفض القنوط والطمع .         
        قال الإمام الحسن البصري في الأخذ بالأسباب وترك النتائج على الله تعالى: من اتكل على الله، فالواجب عليه ألا يتمنى أنه في غير حاله الذي اختاره الله له (]) وسئل واحد : على أي شيء بنيت التوكل على الله؟، فقال: على أربع خصال: علمت أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأن قلبي، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتى بغتة فأنا أبادره، وعلمت أنى لا أحيد من عين الله تعالى حيث كنت، فأنا أستحي منه ( .
        وبما أن القائلين بالندرة مشغولون بالتدبير وتحديد النتائج، فإنهم عبروا عن رأيهم فى معزل عن الإيمان بالله وعن التوكل عليه سبحانه، ولعل التعبير الايماني عن منهج الإسلام يعالج العلل النفسية عند هؤلاء مخففاً عنهم ألم التدبير عند التصرف، وترك تصريف نتائج الأسباب للمسبب .
! ! !




تنويه : الصور والفيديوهات في هذا الموضوع على هذا الموقع مستمده أحيانا من مجموعة متنوعة من المصادر الإعلامية الأخرى. حقوق الطبع محفوظة بالكامل من قبل المصدر. إذا كان هناك مشكلة في هذا الصدد، يمكنك الاتصال بنا من هنا.

عن الكاتب

دكتور / محمد عبد الدايم علي سليمان محمد الجندي الجعفري

0 التعليقات لموضوع "سلسلة : إلى بناء مصر ، الآلية الثانية ( التوكل )"


الابتسامات الابتسامات