الإخلاص وأثره في التنمية :
إن المتغيرات التي تعيشها الأمة اليوم،أصبحت هاجس الجميع،وإن الناظر إلى الأحوال التنموية في مجتمعاتنا يجد أن الأزمة الأخلاقية تقود بشكل طبيعي إلى أزمة السلوك والتقدم،فهذه الأزمة وعلى رأسها أزمة فقدان الإخلاص،تمثل أعتى الظواهر المرضية المؤدية إلى التراجع إلى الوراء .
لذلك نجد أن المفاهيم الإسلامية تؤكد على تنمية ملكة الإخلاص في داخل الإنسان ليتحقق بذلك النفوذ القوى للضمير، مقابل التراجع والتلاشى لسلطة الغريزة المتصلة بطموحات الإنسان .
ولقد دق علماؤنا في المطالبة بالإخلاص والمطالبة بأعلى درجاته، وقد عرف السلف الإخلاص بعدة تعاريف كلها تلتقي في مفهوم واحد وهو: إفراد الحق سبحانه في الطاعة بالقصد، بمعنى أن يريد الفرد بطاعته التقرب إلى الله تعالى دون أي شيء آخر من تصنع لمخلوق أو اكتساب محمدة عند الناس، أو محبة مدح من الخلق، أو معنى من المعاني سوى التقرب به إلى الله تعالى، وقيل هو: أن تستوي أفعال الظاهر والباطن وما أريد به الحق وقصد به الصدق وبالإخلاص على هذا المستوى من الفهم، يمكن التصدر والانطلاق نحو مرحلة التنظيم والهيكلة، متمثلة في قوة جذب مؤثرة، ومصداقية روحية وأخلاقية وحضور اجتماعي فعال .
وبتطبيق هذا المعنى على واقع الحياة تتحقق التنمية المنشودة، وقد اعتبر علماؤنا الإخلاص أصل في الأعمال ، قيل: الإخلاص لباب الأعمال وعمل بلا إخلاص كجسم بلا روح، وكشجر بلا ثمار، وكغيم بلا مطر، وكمولود بلا نسب، والجسم بلا روح لا يصلح إلا للدفن في القبور، والشجر بلا ثمر لا يصلح إلا للحرق بالنار، والغيم بلا مطر لا ينتفع به البشر، والمولود بلا نسب لا يدفع له عند الميراث ذرة من المتاع، ولو أن جسماً ملأ الدنيا تعباً من شرقها إلى غربها، ولم يكن فيه روح، لم يؤنس بقربه، ولم ينتفع به،ولا ترجى بركته، ويتغير بطول المدة، وتزدحم عليه الهوام والجوارح .
والإخلاص كفيل بالتنظيم التلقائي والإرادي المحكم للأعمال، حيث أنه يمثل جذر التنظيم الهيكلي لمشروعات التنمية، واستثمار القوة الروحية في تحريك الساحة الاقتصادية والاجتماعية، ويقوم موضوع الإخلاص على الوجوه التالية :
أولاً: إخلاص العمل من دقائق الآفات، وخفايا العلل .
ثانياً: إخلاص الأقوال من اللغو والباطل .
ثالثاً: إخلاص الأخلاق باتباع مرضاة الملك الخلاق .
ولذلك قالوا لتحقيق معنى الإخلاص: إذا عملت أيها الطالب، فاذكر نظر الجبار إليك، فمن عمل بمشاهدة نظر الجبار، صفى عمله من القذى والأقذار، وقالوا: العمل في ثلاثة: رؤية التوفيق في العمل من الله، والتماس رضا الله بالعمل، وطلب الثواب من الله لا من سواه، ولكي لا ينصرف العقل إلى أن المراد بالأعمال هنا الأعمال الأخروية فقط دون الدنيوية، أكد المسلمون الاوائل أن الأمر يشمل الدنيا والآخرة فقالوا: وقصد الإخلاص في أقوالنا وعباراتنا المتنوعة، يرجع إلى ألا يكون للنفس حظ في عمل من الأعمال التعبدية، الجسمية منها والقلبية والمالية، وألا يرى المخلص أنه مخلص .
وفى محاولة للمزج بين التفكير الشعوري بالإخلاص، والتطبيق العملي الواقعي المعاصر، والتشبث بالمبادئ الأصيلة،ربط السلف الصالح بين القول والعمل بتحركات مدروسة بشكل يضمن توازناً في سير حركة الحياة، يقول الإمام ابن عجيبة في شرحه حكمة ابن عطاء الله السكندري:
( الأعمال صورة قائمة، وأرواحها وجود الإخلاص فيها، كذلك لا قيام للأعمال البدنية والقلبية إلا بوجود الإخلاص فيها، وإلا كانت صوراً قائمة وأشباحاً خاوية لا عبرة بها ) .
بهذا يمكن أن نستغل كل القيم التي رسخها الدين في النفوس، إلى الإخلاص في العمل، لزيادة الإنتاج، والإخلاص في أداء الواجب وما إليه. والغاية من كل ذلك هي تفجير كل هذه الطاقات الكامنة في نفوس الناس، والمستمدة من الدين، وتسخيرها لخدمة العمل لرفع مستوى المجتمع المسلم، بحيث يشعر كل مسلم في نهاية المطاف بأن ما يقدمه لدنياه، وبالتالي لوطنه، هو بعينه ما يقدمه لأخرته، وبذلك يرتبط العمل الدنيوي بالعاطفة الدينية، ويحدث الارتباط بين الدين والدنيا .
الإخلاص واختصار طريق التنمية :
إننا يمكن أن نستثمر كل القيم الروحية وفى مقدمتها الإخلاص كقاعدة رئيسة في بناء شخصية المسلم، فقيمة الإخلاص من شأنها أن تضئ الدرب للإنسان حتى يسلكه وصولاً إلى سعادته في الدنيا والآخرة .
ويعتبر الإخلاص روح الأدب الإيماني والسلوكي وكينونته المتعاظمة في بذل الروح، وهو يمثل فيها التجسيد الأخلاقي لحل معضلات الوجود الإنساني في سعيه نحو التنمية، وعليه سعى أوائلنا في آدابهم إلى إخضاع الظاهر للباطن، والعابر للدائم، والعرضي للجوهري، إنه أدب المعنى والبحث عن قيمه الكبرى، وذلك من خلال سعيه للبحث عن معنى في كل فعل، وعن كل قيمة وجدانية تجاه كل ما في الوجود .
وعلى هذا الأساس قامت النظرة الصادقة نحو تنمية وبناء شخصية الفرد، وقد أبدت هذه النظرة ثمارها، والتي تجسدت في التالي :
1 ـ تكوين هدف أعلى للفرد يقوم على القيم السامية :
لاشك أن تكوين الهدف في الشخصية حاصل في الفرد،فالمرء لا يفتأ يتعلم، ويكتسب الخبرات، ويأخذ العبرة من أحداث الحياة، وكلما ازداد إخلاصه كلما كون هدفاً يسمو بسمو إخلاصه وازدياد طموحه، لذلك قال احد السلف : ( على قدر إخلاص العبد وعلو همته يكون مطلبه ) ، وكأن التوفيق يلازم الإخلاص، فعلى قدر الإخلاص يتحقق طموح الفرد، وعلى قدر همته وعزمه يتحقق هدفه .
2 ـ استواء المدح والذم وإلغاء عادة الاعتذار المعطِّلة :
شاب المجتمع المعاصر نوع من المدح والمجاملة في غير موضعها، فبادر أوائلنا المتقدمون بإلغاء ذلك وعدوه من دواعي الفساد وقالوا بأن من ثمار الإخلاص، عدم التأثر بالمدح المشين الذي يؤدى إلى تعطيل الهمم العالية، كما أنه يؤدى إلى رفع الحرص على مرضاة الناس من دون الله، وقد نظر أهل الحق إلى داء الاعتذارات الفارغة التي تؤدى إلى ضياع الوقت وتعطيل مسيرة التنمية نظرة مشينة، ورفضوها رفضاً تاماً، ومن كلامهم: إن المخلص يصل بإخلاصه إلى ثلاثة أشياء: أحدها: الخوف من المحمدة، لئلا يبطل عمله ويضيع عمره فى الأعمال الرديئة، والثاني: عدم الخوف من ملامة الناس، ففي ذلك تعطيل لكثير من أعمال الخير وكلام الحق، والثالث: ترك الاعتذار، لأن صاحب المعذرة لا يعد مخلصاً .
قيل : من ثمرات الإخلاص، استواء المدح والذم من العامة، ونسيان رؤية الأعمال، وترك اقتضاء الثواب في الآخرة .
3 ـ الإخلاص وتفعيل الطاقة المكنونة :
في رؤية مستقبلية متفائلة في ظل المتغيرات السريعة، وتطور الاتجاهات المعنية بتطور أنماط التفكير، والسلوك العملي، والاستفادة من المعرفة الإنسانية، لفت التصوف الإسلامي النظر إلى تفعيل الإخلاص، وتحويله من طاقة شعورية إلى طاقة حركية، واستعدادات وملكات وانفعالات واستجابات نفسية مختلفة، تهدف إلى استبطان عميق لحقيقة التوافق الأصيل بين الحضور الرقابي لله في الوجود الشخصي للإنسان وقابلية هذا الإنسان للكشف عن إمكاناته العليا على أرض الواقع بما يحقق له معناه الجوهري المفقود في ظل خضم التناحر الاقتصادي والتنافس الحضاري .
قال أحد العلماء: من علامات الصدق في الإخلاص، إفراد القصد لله تعالى وحده دون جميع ما عداه، وتجريد العزم والهمة فيه لله وترك ما سواه ([7]) ومن دقائق الآليات النفسية الحميمة التي حث عليهاعلماؤنا في نظرية موجزة تربط بين أطراف العملية التنموية، قالوا فيها: بالعلم تقوم الأعمال، وبالإخلاص تصحح، وبالصدق تصفى ، ووصفوا الخامل الكسول، المنصرف بهمته عن الإخلاص بقولهم: يكسل في الوحدة، وينشط في الملأ، ويحرص على الأمور الممدوحة عند الناس .
وعلى ذلك يكون الإخلاص من الجذور العميقة لمفهوم التنمية فى بعده النفسي، ويمثل باعثاً إيمانياً روحياً له فاعليته المؤثرة .
0 التعليقات لموضوع "سلسلة : إلى بناء مصر ، الآلية الأولى ( الإخلاص )"
الابتسامات الابتسامات