اشتهرت المدينة المنورة بعبد الله بن عمر كأحد عبادها وزهادها المرموقين بين جيله من الصحابة والحق أن مكانته لم تكن مستمدة من حيث أبيه العظيم عمر بن الخطاب، ولكن من مقومات شخصيته التى تفرد بها بين غيره من الصحابة المقيمين بالمدينة، ( فإذا رآه إنسان أدرك أن به شيئاً من اتباعه آثار رسول الله ) ( ) .
وقد ولد سنة ثلاث من المبعث النبوى، وهاجر وهو ابن عشر سنين ومات سنة أربعة وثمانين هجرية، وقد أسلم مع أبيه، ويقال أنه لم يشهد بدراً لصغر سنه ( ) .
وقد اقتفى سيدنا عبد الله آثار رسول الله فى كل شىء، وحافظ على ملامح الحياة الأولى التى تمناها المسلمون بعد وفاة النبى ، وقد وصفته أم المؤمنين السيدة عائشة بقولها : ما رأيت أحداً أشبه بأصحاب رسول الله الذين دفنوا فى النمار ( ) من عبد الله بن عمر ( ) واغرورقت عينا ابن عمر بالدموع، ومار صدره بلوعة الشوق، واحتلت تفكيره صور الأحبة فراح يتقمص شخصياتهم، ويتلمس تصرفاتهم، فجاءه رجل وقال : يا ابن عمر، أجعل لك جوارش ( ) ؟ قال : وأى شىء الجوارش ؟ قال : شىء إذا كظك ( ) الطعام فأصبت منه سهل عيشك، فقال ابن عمر : ما شبعت من طعام منذ أربعة أشهر، وما ذاك إلا أن أكون له واجداً ولكنى عهدت قوماً يشبعون مرة ويجوعون مرة ( ) .
ومن هذه الكلمات الموجزة تبدو معالم العبرة، وتظهر آثار التربية النبوية لا بن عمر .
ولم لا وهو الذى أخذ الحكم على الدنيا من فِىِّ رسول الله ؟! حين أخذ بمنكبيه وقال : " كن فى الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل " حتى تكونَّ فيه الحذر والخشية فقال : إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك ( ).
بهذا جنح ابن عمر بالنفس إلى السلم، فإذا وصلت النفس إلى هذه الحال استغنت بها عن التطاول إلى الشهوات التى توجب اقتحام الحدود المسخوطة، والتقاعد عن الأمور المطلوبة المرغوبة، فإن فقرها إلى الشهوات هو الموجب لها التقاعد عن المرغوب المطلوب، وأيضاً فتقاعدها عن المطلوب بينهما، موجب لفقرها إلى الشهوات، فكل منهما موجب للآخر ( ) .
إن ابن عمر لم يقعد عن المطلوب أبداً، ولم يفتقر إلى شهواته ، إنه اشتهى يوماً حوتاً فصُنع له، فلما وضع بين يديه جاء سائل فقال : أعطوه الحوت، فقالت امرأته : نعطيه درهماً فهو أنفع له من هذا واقض أنت شهوتك منه، فقال : شهوتى ما أريد ( ) أى : شهوتى أن أعطى السائل الحوت .
بهذا الترفع اتسم منهج ابن عمر فى سلوكه، إنه كان لا يعجبه شىء من ماله إلا أخرج منه لله ، وربما تصدق فى المجلس الواحد بثلاثين ألف درهم، وأعطاه مولاه ابن عامر مرتين ثلاثين ألفاً، فقال ابن عمر : إنى أخاف أن تفتننى دراهم ابن عامر، يا ابن عامر : اذهب فأنت حر، وكان يمكث الشهر لا يذوق فيه مزعة لحم، وأتته اثنان وعشرون ألف ديناراً فى مجلس فلم يقم حتى فرقها ، وقد صدق سيدنا جابر بن عبد الله حين قال : ما رأينا أحدنا إلا قد مالت به الدنيا، أو مال بها، إلا عبد الله بن عمر ( ) .
هذه حال ابن عمر مع الدنيا وشهواتها، وقد أقام منهج مدرسته على هذا الأساس زهد ومعرفة، وكثرت توجيهاته لطلابه فى هذا الطريق .
فعن مجاهد قال : كنت أمشى مع ابن عمر، فمر على خربة، فقال : قل يا خربة ما فعل أهلك، فقلت، يا خربة ما فعل أهلك، قال ابن عمر : ذهبوا وبقيت أعمالهم ( ) .
إن ابن عمر جعل تلميذه "مجاهد" يردد خلفه بالموعظة حتى يعيش آثارها فى نفسه، وهكذا تتباعت العظات للطلاب من ابن عمر.
0 التعليقات لموضوع "عبد الله بن عمر يتسنم ذروةالزهد بقلم الدكتور محمد عبد الدايم الجندي الإسنوي"
الابتسامات الابتسامات